Friday, October 27, 2006

الثــرثــــار


دائما ما أقول إنني أكبر ثرثار أعرفه، فأنا لسبب لا أعرفه لا أسكت إطلاقا، ولم يثبت أن رآني شخص ما في حالة الصمت، فأنا أتكلم حتى في الحالات التي يستحيل فيها على الإنسان الطبيعي الكلام، كحالة النوم التي لا تعطلني عن الكلام إلا قليلا

فإذا رأيتني صامتا فلا تدع ذلك يوحي إليك أنني بالفعل صامت، فقد أكون في هذه الحالة مستغرقا في حديث محتدم مع نفسي أو مع شخص وهمي، وربما كنت أكتب، وهو نوع من الحديث الذي أهمس به إلى الأوراق، وربما كنت في حالة تحضير لحديث ما، كالمحارب في مرحلة الهدنة، وليست الهدنة كالسلام الشامل العادل، تلك الحالة التي لم أستمتع بها منذ أن تعلمت النطق في سن مبكرة نسبيا

بدأت مواهب الكلام تتفجر مني وأنا في الرابعة من عمري، وبدأت على شكل روايات أقصها عن مغامرات حقيقية قمت بها في الأدغال أو في أعالي البحار أو في أعماقها، وكانت الرواية تتركز غالبا حول صراع يدور بيني وبين وحش من وحوش البر أو البحر أو الجو، كنت أنتصر عليها أحيانا، وفي أحيان أخرى أكتفي بمجرد التراجع التكتيكي أمامها، خوفا من أن يصمني أحد المستمعين بالفشر

وتطورت هذه الموهبة إلى درجة ملموسة عندما أدركت الثامنة، وأقصد بالدرجة الملموسة أن أبي قد بدأ، دون أن أشعر، يسجل سيرتي الذاتية على أشرطة كاسيت، وهو دليل "ملموس" لا زال يحتفظ به حتى هذه اللحظة ويستخدمه أحيانا في الترويج لمواهبي الكلامية، خاصة بين الأهل والأصدقاء وكل من هب ودب

وبدأت خلال هذه المرحلة في اكتساب بعض المهارات الجديدة التي كنت أفتقدها في مرحلة التكوين، فقد أصبح من السهل علي، بالتدريب المضني طبعا، أن أقرأ وجوه المستمعين من جمهوري المتنامي، فصرت أقرأ عدم التصديق وأحاول أن أجري التعديلات الملائمة على روايتي بما يتلاءم والإشارات التي تردني من وجوه هؤلاء المستمعين.. ثم لم تلبث هذه المهارة أن صقلت لدرجة أنني بدأت من خلالها أفصل رواية خاصة لكل جمهور حسب قدرته على الاستيعاب، أو بالأحرى، حسب قدرتي على إقناعه

سنوات مرت، وأصبحت أحيط نفسي بسيرة ذاتية عامرة بالأحداث الجسيمة ومطعمة بالتفاصيل الدقيقة، وكل الأحداث والتفاصيل تشترك في عامل واحد، هو أن شيئا منها لم يحدث، وأنها جميعا من نسج خيالي الذي كان سباقا إلى اختراع الأحداث عندما تجف على لساني الحقائق

وأغلب الظن أنني كنت، ولا زلت، أصطنع لنفسي سيرتي الذاتية، دون التزام بالحدود القصوى أو الدنيا من الأكاذيب فيها، لأنني ببساطة إنسان بلا سيرة ذاتية

أنا شخص رمادي، كل مافي وما حولي وصل، ربما بمعجزة غير مفهومة، إلى حالة مثالية من التعادلية، فصرت إنسانا يسهل عليك أن تمر عليه، أو تمر من خلاله حتى، دون أن تشعر بوجوده، ولم يحدث قط أن وقعت لي حادثة تستحق الذكر، أنا الذي قتلت ما يزيد على عشرة أسود وخمسين ذئبا وأنا دون الخامسة، وصارعت سلحفاة متوحشة كدت أجهز عليها لولا أنها فرت من أمامي ولم أدركها لأنها كانت تنطلق بسرعة، ولم تكن دراجتي ذات العجلات الثلاث مجهزة لهذا النوع من السباقات

لو كتبت سيرة ذاتية خالية من الكذب تماما، لجاءت سيرة ذاتية خالية من الكتابة تماما، ولو جلست بين الناس ملتزما بالحقيقة وحدها لخرست
فلا شيء شهدته، ولا واقعة مرت بي يمكن أن تكون محط اهتمام أي شخص كائنا من كان

الكذب إذا بالنسبة لي ليس إلا ضرورة حياتية لحماية وجودي في مكان مناسب من دوائر الضوء والاهتمام أو الانتباه على أقل تقدير

وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره من سيرتي ومسيرتي، فها أنا أجلس منذ ساعة ونصف صامتا دون أن أنطق كلمة واحدة، حتى بدأ القلق يساورني على سلامة أحبالي الصوتية وحنجرتي ولساني.. أقصد أنني بدأت أقلق على عدة الشغل، فقد قرأت ما كتبه داورين عن ضمور الأعضاء التي لا يستخدمها الكائن الحي في مقابل نمو وتطور الأعضاء التي يستخدما باستمرار، وأنا بالطبع أخشى أن يضمر لساني وتنقرض حنجرتي في مقابل نمو وتطور أذني التين أصبحتا العضوين الوحيدين العاملين في جسدي منذ أن انطلقت هذه الطائرة في طنينها المزعج

تسعون دقيقة بالتمام والكمال قضيتها دون أن تنفرج شفتاي عن رواية أو طرفة أو سؤال أو إجابة أو مغازلة أو ملاطفة أو حتى جدل وخناق.. لا شيء على الإطلاق

منذ أن أقلعت الطائرة الفوكرز من مطار الخرطوم وأنا أنتظر أن تنطق جارتي بأي كلمة، أن تلقي بطرف أي خيط للحوار فألتقطه ولا أتركه حتى أشبع رغبتي النهمة في الكلام، وهي رغبة لا تشبع.. ولكنني شيخ له طريقته المتفردة في الحديث إلى مريديه، فأنا لا أبتدر الكلام أبدا، وأنتظر دائما أن تبدأ الضحية بالكلام، حتى أعفي نفسي من تحمل مسؤولية أي ملل قد يتسرب إلى نفسها، فإذا كانت الضحية هي البادئة، فالقاعدة تقول إن قاتل نفسه لا يستحق الشفقة

هي شابة في السابعة أو الثامنة والعشرين، تشير بشرتها الناصعة التي يتناثر عليها زغب أشقر إلى أنها في زيارتها الأولى لمدينة نيالا التي تعمل أفران الحر فيها بأقصى طاقتها في هذا الوقت من السنة.. أعتقد أنها طبيبة أو ممرضة فقد طبعت على قميصها العلامة المميزة لمنظمة أطباء بلا حدود، وأغلب الظن أنها ممرضة أو قابلة، فلا يبدو من الكتاب الذي تقرأه أنها تلقت تعليما رفيعا يليق بطبيبة

بدأت الضحية تشعر بالملل، خاصة بعد أن توقفت الطائرة في مطار الفاشر لساعة كاملة، وهو توقف لم يكن معلنا عنه، وعلى الرغم من وصول المسكينة إلى حالة الاستعداد الكامل للاصطياد، إلا أنني ظللت متمسكا بطريقتي التي لا أغيرها إلا في حالات استثنائية، وهذه ليست حالة استثنائية

أقلعت الطائرة مرة أخرى في طريقها إلى مدينة نيالا، وعدت إلى الكتابة مرة أخرى بعد وقفة قصيرة أغمضت فيها عيني مدعيا النوم... وأنا دائما أكتب على أوراق ملونة مميزة، وأكتب دائما بالحبر الأسود اللامع وبخط جميل منمق، ونادرا جدا ما أتوقف للشطب أو المراجعة أو التعديل

بدأ اليأس يتسرب إلى قلبي، خاصة وأن الملل الذي أصاب ضحيتي لم يصل بها إلى درجة الكلام معي، ولم يبق من الوقت سوى ثلاثين دقيقة هي زمن الرحلة من الفاشر إلى نيالا

وبينما أنا منهمك في الكتابة، مدت جارتي يدها إلى أوراقي ودون استئذان سحبت منها ورقة، ونظرت إليها في تدقيق، ثم رفعت عينيها إلى وجهي وسألتني في ابتسامة أذابت آلام صبر الساعات الفائتة: "ما هذه اللغة العجيبة؟"

اكتفيت بابتسامة لطيفة ولم أرد، فقد أخرستني حركتها المفاجئة، خاصة بعد أن كنت قد يئست من صمتها المطبق وسلمت أمري لله والكتابة، فاتسعت ابتسامتها وتكشفت أسنانها البيضاء المتراصة في تساو ورقة، وسألتني: "يبدو أنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى دارفور، ترى ما اللذي تفعله هنا"؟

إذا يا جارتي العزيزة، فقد تأكد أنك سقطت في حبائل كلامي التي لا فكاك منها... آه.. من أين أبدأ يا عزيزتي؟

1 comment:

  1. Anonymous9:49 PM

    talking is not your only PASSION sir..

    RADWA FOUAD

    ReplyDelete