Friday, October 27, 2006

مقدمة لا بــــــــد منها


يسكنني شعور مزمن ومركب بالاعتقال.. فقلبي سجين في فراغه الشعوري الذي لم ينجح الحب يوما في ملئه، وعقلي سجين في خوائه الفكري الذي تزوره الأفكار والخيالات احيانا فتبعثر محتوياته المتواضعة، وجسدي سجين في هذا الوطن الذي سقطت من ذاكرته منذ قرون كلمة الحرية... فإن كان أبو العلاء قد أدرك سجون نفسه وذكر منها اثنين، سجن العمى وسجن الوحدة، فأنا من وراءه قد أدركت سجوني المتداخلة في بعضها إلى مالا نهاية وأذكر منها ما تيسر

كنت عندما أعيد قراءة مذكراتي، أحس وكأن كاتبه قد انفصل عن الواقع، يشعر به ولا يتأثر ولا يتفاعل، وأنه منفصم عن الناس، يعيش معهم ولا يعايشهم. وبين سطوري كنت أرى بعيني القضبان التي تفصل زنزانتي الفردية عن زنازن الآخرين

انتدبتني إحدى المحطات الإذاعية منذ سنة لإدارة تحرير برنامج إنساني موجه للنازحين في إقليم دارفور المنكوب.. وهناك قرأت صفحة جديدة من صفحات الإنسانية.. إنسانيتي والإنسانية الكبرى.. نقلة ضئيلة داخل السجن الكبير لا يصح أن تصنف الكتابة عنها من أدب الرحلات وإنه لمن الأولى أن تصنف من أدب المعتقلات

ليكن ما يكون، ولكنني كتبت الصفحات التالية على غير نية أن يقرأها غيري، وهي لذلك شخصية فردية تحكمها أنانيتي في التصور ويسيطر عليها شعوري الأصيل بالوحدة والاحتجاز، وهي لهذا السبب قد لا تكون "مفيدة" لمن يظنون أنفسهم القاعدة التي تقاس عليها النفس البشرية وأعتبر أنا بالنسبة لهم استثناء، كما أنها قد لا تكون "ممتعة" لمن لا يتذوقون الملهاة في داخل المأساة ولمن لا يتذوقون المأساة في داخل الملهاة

كتبتها لنفسي، ونشرتها بحثا عن الأنس والألفة، لعلها تصادف سجينا آخر في سجن آخر يبحث في ظلام الوحدة عن شبيه له يشعر شعوره ويحس إحساسه فيطمئن أنه في النهاية ليس وحيدا، فإن تكن أنت عزيزي القارئ هذا الشخص، ولا أتصورك إلا هو، فأهلا بك في سجني الكبير، وإن لم تكن، فلا تضيع وقتك في قراءة هذا الكلام، وحسبي أني كنت أمينا فنبهتك

وأخيرا، لا تدع كآبه هذه المقدمة تخدعك فتصور لك أنك مقدم على قراءه يوميات مأساوية، فواقع الحال أنني، باستثناء هذه المقدمة التي كتبتها في ليلة مقمرة ممطرة، دائما ما أكتب مقدما الضحك على الفلسفة، والطرافة على المعرفة، فإن صادفك حزن فهو حزن رقيق شفاف صادق، ربما دفعك إلى الابتسام أكثر ما دفعك إلى الاكتئاب


نيالا – جنوب دارفور – السودان
أغسطس 2006

1 comment:

  1. Anonymous9:43 PM

    its a delicious agaony sometimes..


    RADWA FOUAD

    ReplyDelete