فرصة أن تصدمني سيارة مسرعة في شوارع الخرطوم صدمة تودي بحياتي، أضيق بكثير من فرصة أن تفترسني سمكة قرش في شوارع القاهرة
السيارات هنا تسير ببطء لامتناهي، وأنا قادم من القاهرة حيث السيارات تصدم المشاة وحيث المشاة يصدمون السيارات
بإمكاني هنا أن أعبر الشارع وأنا أسير بسرعتي العادية، وبإمكاني أيضا أن أتلقى مكالمة هاتفية في منتصف الطريق، ولن أجد من يلعن أسلافي كما يحدث في القاهرة حتى إذا عبرت الطريق بسرعة كارل لويس، بل أنني حتى لن أسمع نفير السيارات التي تستخدم في الفلكلور المروري المصري استخدام سب الدين أحيانا، وكل ما سيحدث هو أن السيارات ستدور من حولي وتتفاداني وكأنني عائق مستديم في وسط الشارع
الواقع أن هذا الهدوء يمتد إلى كافة ممارسات الشعب السوداني ومفردات حياته، ولا يقتصر فحسب على قيادته للسيارات، فالهدوء والدعة والبطء علامات مميزة للشعب السوداني بالكامل
لا أقصد الانتقاص من قيمة الشعب السوداني، الذي يتصف إلى جانب الصفات السابقة بأنه شعب طيب ومثقف وفخور بانتمائه الوطني، وإنما أقصد مناقشة وجهة نظري في سبب هذا البطء العجيب
لقد شاهدت الناس في قطار أنفاق لندن في الثامنة صباحا وهم يدقون الأرض الأسمنتية بكعوبهم وكأنهم جنود في طابور للعرض العسكري، وكنت أبطأهم على الإطلاق
حرارة الجو بالتأكيد لها دور قوي في التأثير على إرادة الإنسان للعمل، بل وعلى إرادته للفعل أيا كان نوعه، وجرب أن تخرج إلى الشارع بين العاشرة صباحا والخامسة بعد الظهر، وستعرف بنفسك مدى بسالة أي شخص يجرؤ على العمل في هذا الطقس الذي تخور تحته أصلب إرادات الرجال
وعلى الرغم من حرارة الجو نهارا، إلا أن السودانيين لا يسهرون الليل، ولا يستيقظون في الصباح الباكر، ولو مت جوعا، فلن تجد مطعما يفتح أبوابه قبل التاسعة صباحا، وستغلق نفس المطاعم أبوابها قبل الرابعة، وليس في الأمر تحديا لنظامي الغذائي الذي يتطلب مطاعما لا تغلق أبوابها بالمرة، وانما احتراما للنظام الغذائي السوداني الذي أجد فيه حليفا لحرارة الجو في تعطيل الأعمال في السودان
في المواعيد التي يفطر فيها المصريون، من الخامسة صباحا إلى التاسعة، لا يوجد من يأكل في السودان، وأقصى ما يمكن أن يباشر به السوداني جوفه هو كوب من الشاي، وفي تمام الوقت الذي يتوقف فيه المصريون عن الافطار، يبدأ السودانيون في عملية الفطور، التي يمثل تناول الطعام فيها جزءا متواضعا، بينما يمثل هضمه الجزء الأكبر من هذه العملية
الفطور يتكون في الغالب من العصيدة والكسرة والملاح والبلدي، ومن الشية والضلعة والكلو كلو إلى جانب ما سبق للموسرين، وحتى لو لم تعرف مكونات بعض الاكلات السابقة، فيكفي أن تعرف أن الصفة المشتركة بينها جميعا هي صعوبة هضمها وقدرتها العجيبة على قمع الرغبة في الأكل حتى الثامنة مساء على أفضل تقدير
جرب أيضا أن تتناول إفطارا كهذا، وسيزداد احترامك لبسالة أي سوداني يعمل ولو لعشر دقائق في اليوم
ذهبت مرة إلى شركة الهاتف لدفع فاتورة في مدينة نيالا بجنوب دارفور، ولما صدمني ارتفاع قيمة الفاتورة، قررت التظلم لمدير فرع الشركة بالمدينة، وتوجهت نحو المكاتب الإدارية مدفوعا بغضبي ورغبتي في رفع الغبن، ولما اختلطت علي المكاتب، سألت جندي الحراسة عن مكتب الأستاذ عمارة، فما كان منه إلا أن أشار برقبته في اتجاه غير محدد نحو مكتب ما يعلم الله وحده كيف سأستنتج العلاقة بين إشارته وبين المكان الذي أرغب في الذهاب إليه
أعدت السؤال بلهجة أشد عنفا عن مكان مكتب المدير، ولكن الجندي الذي لم يغير وضعه المسترخي نظر إلى في لا مبالاة وأعاد الإشارة ذاتها إلى المكان المبهم ذاته
وهنا عجزت عن تمالك نفسي، وصرخت في الشاب بقسوة، انت كسلان تتكلم؟
وكأني لم أقل شيئا، مد الجندي يده إلى الأمام في حركة تعبيرية تشير إلى السير في خط مستقيم، ثم لواها ناحية اليمين لأفهم أن انحرافا نحو اليمين سيأتي بعد السير في خط مستقيم، ثم لوى الشاب يده أكثر نحو اليمين، ففهمت أن اتجاه السير سيكون طوالي ثم يمين في يمين، ثم لواها أكثر حتى كادت تنكسر، وهنا بدا علي عدم الفهم، فتطوع جندي الحراسة الآخر بالإشارة بباطن يده إلى الأرض عدة مرات، ففهمت أن المكتب سيكون في آخر هذه اللفة، حمدت الله على نعمة الصبر، وشكرت لهما مساعدتهما، فرفعا يديهما إلى وجهيهما بالتحية
غلطتي أنني لم ألاحظ أنني ذهبت إلى شركة الهاتف في الحادية عشرة صباحا، أي بالتحديد في الوقت الذي يبدأ الإفطار فيه عمله في بطون هؤلاء الناس، وتصعد فيه الشمس إلى كبد السماء لتتمم الظرف المثالي للنوم، وربما لو كنت من المستجدين الوافدين على الثقافة الغذائية وعلى حرارة الجو، فلا بد وأنك ميت لا محالة
بعد أسبوعين من إقامتي في لندن، أي بعد أسبوعين من اعتيادي الافطار الانجليزي المكون من الشاي أو القهوة والكيك أو خبز التوست والزبد والمربى، لاحظت أنني قد أصبحت أسير في الشارع كالعصافير أكاد لا ألمس الأرض من فرط شعوري بالخفة
ولكن لأن الطبع غلاب، ولأنه لا فارق كبير بين المواطنة المصرية وبين إدمان الفول والطعمية، فقد جرتني وطنيتي إلى شارع إدجوير روود، معقل العرب في لندن، ووضعتني في أحد محال الفول والطعمية، وشحنت معدتي بكمية من الفول والطعمية والسلطة والباذنجان المقلي لو أكلها حمار لسقط مغشيا عليه، ثم حبست بكوب من الشاي بالنعناع وكرسي دخان
الحق يقال أنني شعرت أنني عدت إلى قلب القاهرة النابض، وزعردت وطنيتي بقلبي السعيد، ولكنني استعدت وطنيتي تلك بشكل استاتيكي لا حراك له، فقد استغرق الأمر مني ما يقرب من الساعة حتى أقرر النهوض من مقعدي، واستغرق تنفيذ قرار القيام وقرار الانتقال إلى باب المطعم وقتا آخر يصعب علي تقديره، وخرجت إلى الشارع وأنا أشعر وكأنني جندي هزم في كل الحروب التي خاضها
وتوصلت من هذه التجربة إلى نتيجة خلاصتها أن أطعمة الشعوب تحدد مدى صدق نواياها في مواضيع التقدم والتنمية، بل وفي مواضيع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أيضا
قال هربرت ماركوز، إن إنسانا لا يرغب في إنسان آخر، هو إنسان غير قادر على الثورة، ولا يحتاج الأمر إلى فلسفة لنستنتج أن غذاء وادي النيل بشماله وجنوبه، تجعل قاطنيه من الشعوب العاجزة عن الثورة، ببساطة لأن بشرا يأكلون هذه المتفجرات، لا يرغبون في أي شيء على الإطلاق، وبرضه جرب وقوللي
شركة تنظيف كنب بخميس مشيط
ReplyDeleteشركة تنظيف مساجد بخميس مشيط
شركة تنظيف سجاد بخميس مشيط
شركة كشف تسربات المياه بخميس مشيط
شركة تخزين عفش بخميس مشيط
شركة عزل خزانات بخميس مشيط
شركة كشف تسربات المياه بالرياض
شركة تعقيم خزانات بخميس مشيط
شركة صيانة خزانات بخميس مشيط
شركة غسيل خزانات بخميس مشيط
شركة صيانة مسابح بخميس مشيط