Friday, October 27, 2006

استقيموا يرحمكــــــــــــــــــم الله


ولدت بعيب خلقي في الظهر جعلني منحنيا إلى الأمام بشكل دائم لا علاج له، فبعد أن أنهيت مرحلة الحبو انتصبت جزئيا، ولم أتقدم في عملية الانتصاب أكثر من أنني فردت ساقي وذراعي، أما ظهري فقد ظل على انحنائه حتى هذه اللحظة، برغم كل المحاولات التي بذلها أبي والتي بذلتها أمي، والمحاولات التي بذلها أولاد الحلال وتلك التي تطوع بها أولاد الحرام

قضيت طفولة استثنائية لم أر فيها شيئا من الدنيا أعلى من أقدام الآخرين، ولم تتح لي كثير من الفرص التي تتاح للأطفال في مثل عمري، نتيجة لانحنائي الفطري، ومع ذلك فقد اكتسبت ملكات جديدة نادرا ما توجد في طفل في مثل سني وظروفي الخاصة

كان من السهل علي جدا أن اتعرف على الأشخاص من أقدامهم، ولم أكن اضطر إلى رفع وجهي في وجوههم، بل أنني كنت أقرأ أحوالهم النفسية وأخبارهم وأمزجتهم من أقدامهم والطريقة التي يرتكزون بها على الأرض، كما تعلمت قراءة أقدار الناس من أحذيتهم، فالحذاء الكلاركس الأسود اللماع يدرس لنا اللغة الإنجليزية، أما الحساب والعلوم فيدرسها لنا زوج من الأحذية ذو كعب عال لا يكاد يلمس الأرض حتى يرتفع عنها في رشاقة تؤكد على شباب السيقان التى يحملها، الحذاء البوما ذو الخطوط الزرقاء هو الأستاذ بهجت مدرس الألعاب، أما الحذاء البني الباهت الذي تفرطحت مقدمته تحت ثقل الأستاذ محمد سلامة مدرس اللغة العربية، فقد ضبطته أكثر من مرة يطارد البوت المدبب الذي يضم الساقين التين بنيت معهما صداقة عميقة خلال زياراتي المتعددة لغرفة المشرفة الاجتماعية

ولم يخل الأمر من بعض الفوائد العملية للانحناء الشديد في ظهري، فقد جمعت خلال سنوات طفولتي الأولى كثيرة من التذكارات التي كانت تسقط من الناس دون أن يقصدوا، العشرات من العملات المعدنية، وكمية مهولة من الأدوات الأقلام والبرايات والأساتيك، وعدد لا حصر له من الأزرار ودبابيس الشعر، وكان صندوق المفقودات، الذي قسمته بقطع من الكرتون إلى أقسام حسب الصنف، يحوي إلى جانب قسم الخردوات وقسم الأدوات المكتبية قسما للمفقودات القيمة ضم دبلة زواج كتب عليها اسم عبد المجيد، كما ضم سنا ذهبية لقلم حبر من ماركة كروس وفردة حلق بها حبة زرقاء صغيرة

كنت معتادا على عاهتي التي لم يكن يتقبلها أحد، وكنت أحيانا ما أستمتع بها وأستفيد من ميزاتها التي لم يكن يراها غيري، كانت المشكلة الكبرى هي أن الآخرين لا يتقبلون شكلي الغريب، وكنت أعتبرها مشكلتهم التي لا دخل لي بها، أما مشكلتي الوحيدة فكانت لا تظهر إلا ساعة النوم، فأنا أنام على ظهري ولا أرتاح في أوضاع النوم الأخرى، ولكن نظرا لتركيبي التشريحي الخاص، كان النوم على ظهري كبقية خلق الله عملية مستحيلة فيزيائيا، فالنوم في وضع مستقيم غير وارد، فإما أن أنام في الوضع جالسا أو أنام في الوضع مستلقيا رافعا ساقي في الفضاء ناحية السقف

كان النشاط الرياضي في مدرستي الابتدائية جيدا، إلا أنني لم أتمكن من المشاركة في أي رياضة من الرياضات المتاحة التي كانت تحتاج إلى تلاميذ منتصبي القامة، وحتى الهوكي الذي يفترض فيه أن ينحني اللاعبون على عصيهم التي يطاردون بها الكرة المطاطية الصغيرة لم أفلح في ممارستها، حيث تبين أنني لا أستطيع العدو وأنا أمسك العصا في نفس الوقت، لأنني ببساطة كنت أجري على أربع، أي أنني كنت أستخدم يدي في العدو لأنني أكون أسرع عندما أجري كذوات الأربع

وكبرت وأصبحت شابا وقارب طولي المترين، إلا أنني ظللت أقصر زملائي وأقراني لأنني ظللت على وضعيتي الشاذة التي لم يطرأ عليها تغيير كبير، ولكن التغيير الكبير طرأ على الآخرين، فقد رأيت في الشارع أشخاصا آخرين يسيرون وقد انحنت قاماتهم إلى الأمام، ولاحظت أنهم يلاقون صعوبة في السير على أربع كما أسير أنا


مرت عشر سنوات أخرى وتضاعف التغيير الذي طرأ على الناس في بلدي بشكل مذهل، حتى أصبح من النادر أن ترى في الشارع الآن شخصا منتصبا، وفجأة، لم أعد أبدو شاذا أو غريبا، ولم تعد العيون ترمقني بنظرات الشفقة المؤلمة، وتحولت نظرات الشفقة في عيون الناس إلى نظرات دهشة يرمون بها أي شخص يرونه في الشارع يسير منتصبا

ولم يكن الأمر يرتبط بسن أو جنس، فقد كان الشيوخ يسيرون إلى جانب الشباب إلى جانب الأطفال وكلهم قد انطرح نصفه الأعلى إلى الأمام، كما كانت النساء في ذلك كالرجال سواء بسواء، كما لم يكن شأن الانحناء مرتبطا بالطبقة أو المكانة الاجتماعية، فالثري كالفقير والوزير كالغفير، الكل منحني إلى الأمام

وكما زادت أعداد المنحنين زادت أيضا مهارتهم في السير في هذا الوضع الذي كان قبل ربع قرن وضعا غريبا يسترعي الدهشة والعجب، أما الآن فقد أصبح وضعا رسميا للبلاد

رئيس الدولة يقابل الزوار الأجانب وهو منحن للأمام، ويلقي الخطابات التاريخية من الوضع منحنيا، ويحضر الاجتماعات التنفيذية من الوضع منحنيا، ويجلس أمامه الوزراء وكبار رجال الدولة أيضا وهم يكادون ينبطحون من شدة الانحناء، وتمر المارشات العسكرية من أمامه وقد تراص الجنود في مجموعات في نظام بديع بملابسهم الكاكية المنمقة وقد انحنت قاماتهم إلى الأمام مثلهم في ذلك مثل الرئيس المعظم الذي ارتدى ملابسه العسكرية ووقف على المنصة راكعا ورافعا ذراعه بالتحية الميري


وبالطبع فإن بعض الناس كطائفة الاسكافية والخزافين والنحاسين و(أصلح بوابير الجاز) وعم حسنين الذي يسن السكاكين في شارعنا لم يلاحظوا أصلا أنهم قد أصبحوا مثلي، لأنهم في أحوالهم وأعمالهم لا يجدون الوقت أو الفرصة لتفقد قاماتهم ولمعرفة إذا ما كانوا قد تصلبوا على هذا الوضع أم أنهم لا تزال لديهم القدرة على الانتصاب والسير المستقيم الذي نشاهد سكان الدول الأخرى عليه على شاشات التلفاز
افتقدت التميز الذي كنت أتمتع به،عندما كنت المقوس الوحيد في الشارع، أما الآن فقد صار الجميع سواسية في الانحناء، وعلى الرغم من فشل كل المحاولات التي بذلت سابقا في سبيل إقناعي بالانتصاب أو إجباري عليه، إلا أن إصراري على التميز والتفرد كان أقوى من المحاولات الطبية والرشاوى السخيفة التي عرضتها علي أمي لترغيبي في الاعتدال
فجأة وبدون سابق تجهيز أو إعداد قررت أن أقف، أن أفرد قامتي كما يفترض بي وكما يفترض بالجميع، وللعجب فقد نجحت من المرة الأولى في الانتصاب بشكل كامل، وأصبحت للمرة الأولى قادرا على السير على قدمين كالبشر، وصارت رأسي أقرب إلى السماء وأبعد عن الأرض مما كانت، وكم كانت السعادة التي شعرت بها عندما أحسست في استقامتي إحساسا جديدا لم أكن قد تعرفت عليه من قبل، وأصابتني الحيرة وبدأت أسأل الكبار عن اسم هذا الإحساس الجديد، ولكن أحدا لم يستطع أن يضع له اسما مناسبا، ونصحني عمي الذي تجاوز السبعين بأن أبحث في المراجع الأجنبية عن اسم يليق بهذا الإحساس العظيم، وبينما كنت أتصفح أحد كتب التاريخ وجدت إشارة في أحد الهوامش إلى تعريف يشبه إلى حد كبير أعراض ذلك الشعور العارم بالنشوة والسعادة، وقد كتبت إلى جانبه بين قوسين كلمة (الكرامة) و

2 comments:

  1. Anonymous10:51 PM

    untill the last paragraphs, I thought it was a true story, but I was shocked by the last paragraph, it is a new way of writing i am seing here i think, a bit weird but I like it :)

    did u try writing short stories? i mean real ones? i think it would be good

    ReplyDelete
  2. Anonymous8:54 PM

    dont ever lose it...

    ReplyDelete