Friday, September 21, 2007

الوصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــول



أول رحلة جوية قمت بها في حياتي كانت من القاهرة إلى الجزائر، حيث طلبت مني الإذاعة العالمية التي أعمل بها أن أذهب إلى هذا البلد الجميل كي أغطي أحداث دورة الألعاب العربية، ونظرا لسوء تخطيط الرحلة، ولأن كل خطواتها جرت في اللحظات الأخيرة، لم تعثر سكرتيرة المكتب في القاهرة على وسيلة لسفري إلى الجزائر سوى مقعد في درجة رجال الأعمال على متن طائرة مصر للطيران، وهي درجة في السفر لا ينالها إلا علية القوم من المسؤولين ورجال الأعمال
وأنا ربما أكون رجلا، إلا أنني بالتأكيد لست رجل أعمال

وبجانبي كان يجلس وزير الشباب والرياضة المصري قبل أن يعين وزيرا للإعلام، أنس الفقي، ورئيس اللجنة الأولمبية العربية وعدد من المسؤولين العرب الذين كانت القاهرة محطة خلال رحلتهم إلى العاصمة البيضاء التي ما إن وصلنا إليها حتى فتحت أبوابها عن سجاجيد حمر وصفوف من حرس التشريفات والمساعدين الذين كانت مهمتهم استقبال كبار الزوار وأنا من بينهم، لا لشيء إلا لأن الصدفة وضعتني في معية الوزير

تذكرت هذه الرحلة وأنا على متن إحدى طائرات الأمم المتحدة المتجهة إلى مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، منتحلا شخصية باحث تنقية مياه في منظمة اليونيسيف، وهي المنظمة التي سهلت دخولي إلى دارفور دون أن تعرف السلطات السودانية أنني صحفي

الطائرة بها اثنا عشر مقعدا، وحجمها صغير لدرجة أننا لم نستطع أن ندخلها ونسير في بطنها إلى أماكننا إلا بعد أن انحنينا، ولدرجة أن الشاب البلغاري الأشقر الذي كان يقود الطائرة مع مساعد نرويجي جلس القرفصاء على أرض الطائرة حتى يطلعنا على إجراءات الأمان
الإجراءات طويلة ومعقدة شأن كافة إجراءات الأمان والسلامة التي تعمل بها الأمم المتحدة على كافة مركباتها ولو كانت سيارة، وعندما أشار قائد الطائرة إلى حقيبة أنيقة متوسطة الحجم لونها أزرق وتتوسطها دائرة بيضاء عليها صليب أحمر، وقال إنها تحوي بعض أدوات الإسعاف الأولي، انتابني شعور مقبض بأن هذه الطائرة واقعة لا محالة، وأنني فيها ميت لا محالة

طارت الطائرة الصغيرة فوق الصحراء التي بدأت بمجرد الخروج من العاصمة السودانية، واستمرت حتى وصولنا إلى نيالا، وعندها فقط بدأت بعض البقع الخضراء تظهر حول الأودية الجافة التي تحيط بالمدينة، ولما أصبحنا فوق المطار مباشرة، بدأت الطائرة تهبط هبوطا قاسيا من ارتفاع عشرة آلاف قدم، وشعرت أن قلبي ينخلع من صدري، وبأنني لا أستطيع التنفس، وفي الألف القدم الأخيرة قبل الأرض اعتدلت الطائرة فجأة وبدأت تدور حول المدينة دورة واحدة تهبط بعدها على الممر الوحيد لمطار نيالا من طرفه الشرقي

كانت تجلس أمامي سيدة ألمانية قصيرة وممتلئة ووجهها الأشقر قد لوحته الشمس وأكسبته لونا أقرب إلى البني المحروق، هذه السيدة التي لم تتوقف عن الكلام طوال الرحلة قالت إن هذه الطريقة الغريبة في الهبوط تهدف إلى تفادي الطيران على ارتفاع منخفض فوق مناطق نائية، لأن احتمال إسقاط الطائرة ببندقية عادية يكون عندها قائما

ودارت الطائرة فوق المدينة دورة عرفت منها أن أعلى بناية في المدينة مكونة من أربع طوابق، وهي بناية وحيدة، أما بقية المباني فأغلبها من طابق واحد كلها مكون من بيت حوله خلاء يحيط به سور، أما نيالا فشوارعها ضيقة

نزلنا إلى أرض المطار وكان الجو ساخنا بشكل مؤلم، تكاد تشعر وأنت تمسح العرق عن جبهتك بأن جلدك سينسلخ، وتوجهنا إلى بوابة إليكترونية صفرت لدى مرور كل راكب من ركاب الطائرة السبعة، ومع ذلك لم ينتبه لنا أحد، وظل رجل الأمن الوحيد بصالة الاستقبال في المطار الصغير جالسا في مكانه، أو بالأحرى نائما في مكانه

وكانت مسؤولة اليونيسيف التي سهلت لي أمر الحصول على إذن الدخول إلى دارفور، وهي أمريكية إيرانية اسمها روشان كاديفي، قد حذرتني ما لا يقل عن عشر مرات من أن الاستخبارات السودانية ستقابلني لحظة وصولي إلى المطار، وأنني سأمر بإجراءات أمنية لم أر مثلها في حياتي، بل إنها حذرتني من أن عناصر الاستخبارات سيحاولون الاستيلاء على النسخة الأصلية لتصريح دخولي إلى دارفور، وهو السبب الذي جعلني أحتفظ بعشرين نسخة من التصريح المكون من ثلاث ورقات في حقيبة يدي

ولكنني لم أستخدم النسخة الأصلية، ولم أستخدم أيا من النسخ الأخرى، ببساطة لأن أحدا لم يستوقفني أو يطلب مني شيئا، وكان الإجراء الأمني الوحيد الذي مررت به هو قدم رجل الأمن النائم في صالة المطار التي مدها في طريقي أثناء محاولته الانقلاب على جانبه خلال نومه، وكان التوقيت حاسما، فجاءت قدمه بين قدمي مباشرة أثناء سيري بسرعة وهو ما أدى إلى سقوطي على وجهي كاللوح يهوى إلى الأرض دون أن ينثني

قمت ونفضت عن نفسي تراب الأرض الذي علق بملابسي، ورحت ألملم أشيائي وأنا أنظر إلى هذا النائم بغيظ كظمته بسرعة لألا يستيقظ ولا يعتذر، وإنما يسألني عن التصريح وتنكشف اللعبة وأنتهي سجينا في آخر بلاد المسلمين (حقيقة جغرافية) بينما تدور في رأسي صور متقاطعة لرحلتي الأولى التي استقبلتني فيها العاصمة الجزائرية استقبالا يليق بكبير أو أمير، بينما استقبلتني نيالا بفتور لم يكشف عن وجهها الحقيقي الذي تكشف من تحت التراب يوما بعد يوم عن مدينة تشعر بعد مرور السنوات أنك تركت فيها من قلبك ما يجعلها.. وطنا

1 comment:

  1. للبدايات بريق خاص

    لكن النهايات وحدها هى صانعة الذكرى

    ReplyDelete