Saturday, November 04, 2006

فرق العـمـــــــــــــلة


إذا كنت حديث عهد بالسودان مثلي، فلا بد وأنك واقع فيما وقعت فيه من ارتباك بين الجنيه والدينار، وأصل المشكلة أن النظام السوداني عندما ضربته دروشة التحول إلى النظام الإسلامي، حول عملته إلى الدينار أسوة بالسلف الصالح من المسلمين الأوائل، وكان الموقف فرصة سانحة للتغطية على انهيار العملة المحلية التي جعلت كيلو جراما من اللحم يساوي أربعة عشر ألف جنيه، فاستغلها النظام وجعل الدينار عشرة أضعاف الجنيه السوداني اتباعا لسياسة "نبدأ من أول وجديد"، فأصبح كيلو اللحم يساوي ألفا وأربعمئة دينارا

ولأن الشعب السوداني الطيب خلق ألوفا، لا يغيره الزمن ولا تبدله الأيام بسهولة، فقد احتفظ في ذاكرته بالعملة البائدة، لا يني يذكرها في أي محاسبة أو معاملة، فإذا أراد منك البائع أو سائق التاكسي ألف دينار، قال لك "عشرة ألف" وإذا كنت مثلي قضيت حياتك كاملة على حافة الإفلاس، فلا بد وأنك ستظن أنه يقصد عشرة آلاف دينار، أي ما يوازي خمسين دولارا، وهو مبلغ كما تعلمون جسيم

ولا يختلف الأمر كثيرا إذا قال لك البائع أو سائق التاكسي "أعطني ألف"، فأعطيته مئة، فسوف يردها إليك مشفوعة بنظرة إشفاق فائلا: ألف دينار.. جنيه ما عاد

والحل الوسط الذي توصلت إليه بعد طول معاناة، هو أن أعرض كل ما أحمله من العملة السودانية على البائع أو السائق، وعليه هو أن يختار منها ما يريد، وهي عملية آمنة تماما ما دمت تعرف أنه سيأخذ المبلغ الذي طلبه أو عشرة أضعافه أو عشره، ولا شيئ بين هذا وذلك وذاك

وبعد فض هذا الاشتباك، أصبحت مشكلتي مع عم جمعة، صاحب البقالة التي أشتري منها احتياجاتي، ومع إلياس، سائق التاكسي الذي ينقلني يوميا إلى حيث أريد، قاصرة على تبادل الود بيني وبينهم بمقادير غير متكافئة ولا متوازنة ولا مبررة بمنطق يقبله العقلاء

فأنا أحب عم جمعة لأنه يشبه "عربي" الذي كان فراشا وبوابا معا لمدرستي الابتدائية، وكان كثيرا ما يسمح لي بأن أدخل إلى المدرسة حتى بعد الموعد الرسمي دون أن يضربني على مؤخرتي بعصاه التي كانت لغة الحوار الوحيدة بينه وبين المتأخرين عن موعد الدخول، ويبدو أنه كان يشفق علي من ضربة العصا بسبب هزالي الشديد في هذه المرحلة من الطفولة

أما عم جمعة الجمعة، فلا يبادلني الود ودا، ويتعامل معي ببرود وجفاف من يظن أنني أسعى لمودته طمعا في بضاعته التي تراصت وراءه على رفوف لم تمتد إليها يد الترتيب منذ زمن ليس بقريب، وربما ظنني طامعا في الشراء منه بالأجل، وهي عادة للمصريين لا يتخلون عنها ولو ملكوا ما يكفي للدفع الفوري

فكلما تقربت منه صدني بنظرة لا معنى لها، وكلما حاولت إطالة وقفتي بدكانه رغبة في التطلع إلى وجهه الذي أراه جميلا، دفع صبيه دفعا إلى مساعدتي في العثور على ما أبتغيه... وحتى عندما لجأت إلى حيلة طلب الفاتورة، معتقدا أنه لا بد مستغرق وقتا في كتابتها، ردني هو بإعطائي فاتورة خالية إلا من الختم، على أن أملأها بنفسي فيما بعد

أما إلياس، فالموقف معه معكوس بالمرة، فهو يحبني، وأنا لا أطيق له ظلا، يتقرب إلي وأنفر منه، ولعل السبب في ذلك هو أنني كرهت أن يناديني باسمي مجردا من لقب "أستاذ" الذي حصلت عليه مجانا في بلادي لمجرد أنني أرتدي زيا إفرنجيا، وأحمل حقيبة أوراق

لعله سبب سخيف كي أنفر من شخص ما، لكنني حرت في البحث عن سبب آخر فلم أجد غير هذا السبب السخيف

ومع ذلك، فإنني أعترف أنه ساعدني بشكل غير مباشر في معرفة شوارع الخرطوم، ومشاهدة أكبر قدر من معالمها، حيث يتعمد في كل مرة أصحبه فيها أن يدور من أبعد مكان عن المكان المقصود، وربما عاد إلى نفس الشارع مرتين في الجولة الواحدة، ومادامت الجولة مدفوعة الأجر بإذن ربها، فلا خسار عليه، وما دمت أشاهد وأتعلم فالأمر هين، حتى ولو لم يكن هذا التعليم مجانيا

1 comment: